ليلة الزفااف
السبت فبراير 20, 2010 4:32 pm
لـــيـلة الـــزفــــاف..
قصة قصيرة _ نجيب الكيلاني
...
..
.
قراءة ممتعة
أنا أكرهه....أكرهه من كل قلبي....وأنا صغيرة....وحلوة....وأمقت النفاق والكذب، وأكاد أجن حين أرى إنسانا- أو حتى حيوانا- يقع تحت وطأة أي نوع من الظلم، الظلم أكبر الجرائم، ومدرسة لتخريج كل أنواع الرذائل، ومعمل تفريخ لشتى ألوان الفساد.... وهو في السبعين من عمره، وأنا في السابعة عشرة....اذروا ذلك جيدا....تصوروا كيف تمتد أذرع الشتاء الجرداء العجفاء، لتضم إلى الصدر الواهن المكروب، حيوية الربيع وافتتانه وروعته....هو زوجي...
كلما تطلعت إلى عينيه، تذكرت العملة المعدنية الملساء الزائفة، وانبعثت في قلبي أنغام لحن جنائزي قديم سمعته في أحد الأفلام السنمائية، تجاعيد وجهه تذكرني بالمثل الشائع (أرض عمان كلها دروب)، غير أن دروب وجهه لا تقودني إلا إلى التيه والضياع . وعالم الجدب والأحزان... مثله لم يكن يحتاج لزوجة في ريعان الشباب، وإنما يحتاج إلى ممرضة مدربة، لتدلك له ظهره المنحني، وساقيه الضامرتين المريضتين ولتسقيه الدواء في المواعيد التي يحددها الطبيب ....لكن للأسف .... الناس هنا لا يفرقون بين وظائف الأنثى ....كزوجة .. أو زوجة .. أو ممرضة .. الأنثى تستعمل في أي شيء...يا للعار!! لا أنسى ما حييت يوم الزفاف ...جاءني يعرج.. ويلهث.. ويسعل ...ولوح بيده المرتعشة، ورأسه هي الأخرى كانت ترتعش، وقال: ( اقتربي مني يا نورة كي أقبلك) خطوت إليه، وكأني أساق إلى ( وادي الأخدود) الذي قرأت عنه في الكتب، لامست لحيته البيضاء بشرة وجهي البضة الناعمة ... هل أكذب عليكم؟؟ لا... الحقيقة أنني شعرت باشمئزاز بالغ، أثار في نفسي الغثيان، كدت أدفعه بيدي في غيظ، لكني تمالكت أعصابي، وغبت عن الوجود في رحلة إلى عالم النسيان الأسود المخيف كنت فريسة كابوس موهق محطم للأعصاب .. يا إلهي !! لم هذا العناء كله؟؟ لم اشعر بقبلته ولا بذراعيه كان كالأفعى تطوقني ..لكأنما تثلجت أطرافي، أو أصيبت بشكل مباغت ... ثم ماذا؟؟ جلسنا نتناول الطعام كان ضعيف البصر لدرجة كبيرة.. وأخذ يتحسس الأطباق ليعرف ما أمامه من مأكولات ... وأخذ يثرثر .. قال لي الطبيب، إن عندي ماء ابيض على عدسة العين، وأنني أحتاج إلى جراحه ..الأطباء يهولون دائما .. الشافي هو الله يا (نورة) .. صحتي قوية كالحصان .. لم أمرض أبدا .. رحم الله أيام زمان ..كنت فارسا لا يشق له غبار .. حاربت .. وقتلت.. وتزوجت كثيرا.. الناس تعرف من أنا، كنت أبث الرعب في قلوب الجميع.. بل كنت الرعب نفسه .. كنت أقنص النساء والأطفال ...وأبيعهم في سوق العبيد خارج البلاد، تعلمت الغوص، وتاجرت في اللؤلؤ... كانوا في البر يسمونني (صقر الصحراء). وفي البحر (قاهر الأمواج) أنت يا نورة لا تعرفين من أنا ... من حسن حظك أن تكوني زوجة لي، بل ويشرفك أن تقفي على أعتابي ، وتسهري على راحتي، سمعت عن جمالك وأدبك، فقررت الزواج منك... ألست سعيدة!!
اه.. نظرت إلى جذع النخلة المتأكل، وإلى جذوره الذابلة.. وعلامات الفناء تدب في كل أوصاله، وشعرت بموجة عاتية من الكراهية، لو لم أكن زوجته لما استبدت بي هذه الكراهية، إن الشيخوخة جديرة بالعطف والاحترام وتستدر العون، لكن الشيخوخة الظالمة الحمقاء الأنانية، تملؤني بالنفور... وصحت في حقد مكبوت:
- (لماذا تزوجتني وأنا في سن حفيدتك ؟؟)
قال ببرود قاتل:
(لإني أريد ذلك)
(لكني لا أريده)
قال وهو ينهش فخذ خروف صغير:
(لا يهم...)
نظرت إلى طاقم الأسنان الصناعي وهو ينهش اللحم، فخيل إلي أنه لحم امرأة ضحية خطفها في الزمن الغابر، وبدا لي أن الدماء تسيل على أشداقه، وتخضبت لحيته البيضاء، وتلوثت أصابعه المرتجفة وبدا لي شاربه ينتفض وكأنما تحول إلى حراب فضية رفيعة... وتضاءل وجهه، وبدا مثلثا، تنتصب عليه أذنا وحش مفترس، بل وبدا لي أيضا أنه يعوي كوحش ضار أصابه داء الكلب، فجن جنونه فصرخت بأعلى صوتي طالبة النجدة .. ثم ارتميت على بساط الحجرة، ولم أفق إلا على جمهرة من النسوة ، يصبون الماء على وجهي، ويدلكون أطرافي وصدري، ونظرت حولي، رأيته جالسا لم يتحرك، وفخذ الشاه في يمينه، يمضغ الطعام بهدوء وروية ... وضحكت النسوة .. وقالت إحداهن: وأظنها زوجته الثالثة: ( ماذا يزعجك يا عزيزتي؟؟ لا تقلقي،سرعان ما يذهب الفزع، ويحل محله الهدوء والاستسلام، لا شك أنه حدثك عن بطولاته القديمة إنه يمزح بلا شك...)
أما هو فحاول أن يضحك، لكن السعال سبقه، بحيث لم أعد أعرف هل يقهقه مسرورا، أو يسعل مأزوما، وخرج النسوة، وعاد الصمت من جديد وقال:
(ألا تأكلين؟؟)
ولما لم أجب بكلمة، تمتم:
(تصرفاتك هذه لا تحرك في شعرة واحدة.. أنا أعرف النساء جيدا.. ذات مرة.. وكان ذلك منذ ثلاثين عاما لم أرتح لتصرفات إحدى زوجاتي .. قتلتها على الفور..)
هتفت في ذعر:
(قتلتها؟؟).
(أجل ... وماذا في ذلك... المرأة الفاجرة لا تستحق سوى ذلك؟؟).
قلت في تحد:
(والرجل الفاجر، ما ذا يستحق؟؟)
ضحك ضحكة سمجة تبعث على الضيق والاشمئزاز وقال:
(إنه رجل...)
(ألم يحاسبك أحد على ما فعلت؟؟)
تجشأ، ثم شرب قدحا من الماء،وتمتم:
(ما زلت صغيرة يا نورة .. وسأعلمك الكثير).
كانت هناك أشياء كثيرة أردت أن اقولها له، لم أمسك لساني خوفا منه، فقد بدا لي تافها لا وزن له، وحتى لو استطلع أن يقتلني لما شعرت بأدنى ندم على حياتي، إن حياة في ظل هذا المخلوق هو الموت بعينه، قلت وأنا أصر على اسناني:
(أنا أكره الظلم).
(أنت ساذجة.. الظلم صناعة الأقوياء.. ثم ما هو الظلم؟؟ كل ما يطلب منك دون أن يوافق هواك فهو ظلم، لكنه في
نظر الأخر ضرورة وعدل...)
ومسح على لحيته البيضاء، وشاربه الكث، ثم استطرد:
(لست غبيا .. أنت تعتقدين أن زواجك مني ظلم.. وأنا أعتقد أنه حق مشروع ...)
قلت في نفور:
(تحدث عن أي شيء إلا الحق...)
لشد ما أكره كلماته، ونبرات صوته، وملامح وجهه وأشعر أن بيني وبينه عصورا سحيقة، إنسان من عصر الغابة يتكلم، يخاطب مجتمعا أخر، وله منطق مضحك ومحنق، ويريد أن يفرض سلطانه وقيمه على امتداد الدهر، متحديا بذلك سنن الكون والحياة.. متحديا الله.. وكل المثل الرفيعة.. فلماذا لا أسخر منه؟؟ هذا السلاح وحده –برغم تفهته- قد يقلم أظافره، ويرده إلى الصواب.. قلت وأنا أضحك في خلاعة مصطنعة:
(لم يعد هنا أسواق للعبيد)
وهم بالكلام لكني قاطعته:
(ولن تستطيع اليوم أن تختطف عنزة..)
ارتجف شاربه، وأراد أن يرد، لكني لم أعطه فرصة واستطردت:
(لو فكرت في قتل زوجة لك لساقوك إلى المشنقة).
وأخذت أقهقه في هيستيرية، وهو يجاهد ليحقق في تغييرات وجهي، وصرخ كأسد جريح :
(زعموا أنك مؤدبة ..)
(إنني كذلك، لكني أحتقر الزيف، وأمقت الظلم).
قال وهو يلوح مهددا:
(العصا وحدها هي التي ستردك إلى صوابك).
تحامل على نفسه، وبحث عن عصاه المعوجة التي يتكئ عليها، وأخيرا وجدها، وأنا واقفة أرقب المشهد المحزن ضاحكة ساخرة، لكني رأيته يتقدم نحوي، ويرفع يده المرتعشة بالعصا محاولا أن ينزل بها على رأسي، ولكني في لحظة قصيرة وثبت كقطة صغيرة، فهوت عصاه على الحائط، وكرر الهجوم عدة مرات، وفي كل مرة كنت أفلت من عصاه وأضحك، لا أدري لم كنت أفعل ذلك، كنت أتصرف بلا وعي يدفعني إلى ذلك جنون اليأس، أو حرقة الظلم، لا أدري بالضبط ماذا كان يعتمل في داخلي، كنت أريد أن أنفث عن تمردي وغضبي وثورتي، وحقي الضائع بأية وسيلة، في عالم لا يؤمن بأن المرأة إنسان.. كائن.. له روح وقلب وأشواق قد تكون أقوى وأعنف من التي يمتلكها الرجل..
وأخيرا حصرني في ركن من أركان الغرفة، كان على يميني الصوان ومن خلفي الحائط، وعلى يساري مرأة التسريحة ومقعدها، ورفع عصاه، ولم أجد وسيلة للدفاع، سوى أن أنقذف نحوه كي أحمي رأسي . انقذفت بقوة، فارتطمت بصدره وبطنه.. فارتمى على ظهره متلاحق الأنفاس، ولم يستطع النهوض، والعصا ملقاة إلى جانبه كسيف الفارس المهزوم.. وقفت جامدة لحظة.. ثم نظرت إلى وجهه الشاحب، وصدره الذي يعلو ويهبط في سرعة مخيفة، فصرخت بأعلى صوتي مرة أخرى طالبة النجدة..
وأتى النسوة من جديد، متشحات بالثياب السوداء، ترتسم الللهفة والإشفاق على عيونهن. زوجاته الثلاثة، واثنتان من بناته وهما أرملتان... ورجل من أبنائه يبلغ الخمسين، وهتف الابن: (ماذا جرى؟ إنها لفضيحة..).
أشرت بأصبعي نحو أبيه دون أن أتكلم، كانت الدموع تسد حلقي، وتجري فوق خدي، وأنا لا أكاد أصدق ما يحدث،
لا شك أنني في حلم مخيف..
وانكب الجميع عليه، وتسللت أنا خارجة من باب الغرفة، وسمعت العجوز، وأنا أندس في أحضان الظلام البارد الوادع.
(لا أريد هذه الشيطانة.. اذهبوا بها لأبيها ... هي طالق ..طالق..طالق..).
وجريت كطفلة صغيرة في الشارع الصغير، حافية القدمين، وأنا لم أزل بثوب الزفاف، لم أشعر الأحجار والأشواك التي تجرح أقدامي، ولا بالذين أصطدم بهم عرضا في الطريق، ولا ببعض السيارات الرابضة أمام البيوت.. كنت اتخذ مساري بالغريزة وكأن لي هدفا مرسوما لا أحيد عنه.. وفجأة وجدتني في الشارع الكبير الذي تغمره الأضواء، وينبض بالحياة، وأغاني المذياع تتردد في أفاقه حلوة شجية.. خففت من خطواتي.. وخجلت من ثيابي.. طأطأت رأسي . لكني لم أتوقف .. وكلمات الغزل المنتشرة على جانبي الطريق.. لكني كنت أشعر أنني قضيت في الكهف مائة عام برغم أنها لم تكن سوى ساعات قليلة..
قصة قصيرة _ نجيب الكيلاني
...
..
.
قراءة ممتعة
أنا أكرهه....أكرهه من كل قلبي....وأنا صغيرة....وحلوة....وأمقت النفاق والكذب، وأكاد أجن حين أرى إنسانا- أو حتى حيوانا- يقع تحت وطأة أي نوع من الظلم، الظلم أكبر الجرائم، ومدرسة لتخريج كل أنواع الرذائل، ومعمل تفريخ لشتى ألوان الفساد.... وهو في السبعين من عمره، وأنا في السابعة عشرة....اذروا ذلك جيدا....تصوروا كيف تمتد أذرع الشتاء الجرداء العجفاء، لتضم إلى الصدر الواهن المكروب، حيوية الربيع وافتتانه وروعته....هو زوجي...
كلما تطلعت إلى عينيه، تذكرت العملة المعدنية الملساء الزائفة، وانبعثت في قلبي أنغام لحن جنائزي قديم سمعته في أحد الأفلام السنمائية، تجاعيد وجهه تذكرني بالمثل الشائع (أرض عمان كلها دروب)، غير أن دروب وجهه لا تقودني إلا إلى التيه والضياع . وعالم الجدب والأحزان... مثله لم يكن يحتاج لزوجة في ريعان الشباب، وإنما يحتاج إلى ممرضة مدربة، لتدلك له ظهره المنحني، وساقيه الضامرتين المريضتين ولتسقيه الدواء في المواعيد التي يحددها الطبيب ....لكن للأسف .... الناس هنا لا يفرقون بين وظائف الأنثى ....كزوجة .. أو زوجة .. أو ممرضة .. الأنثى تستعمل في أي شيء...يا للعار!! لا أنسى ما حييت يوم الزفاف ...جاءني يعرج.. ويلهث.. ويسعل ...ولوح بيده المرتعشة، ورأسه هي الأخرى كانت ترتعش، وقال: ( اقتربي مني يا نورة كي أقبلك) خطوت إليه، وكأني أساق إلى ( وادي الأخدود) الذي قرأت عنه في الكتب، لامست لحيته البيضاء بشرة وجهي البضة الناعمة ... هل أكذب عليكم؟؟ لا... الحقيقة أنني شعرت باشمئزاز بالغ، أثار في نفسي الغثيان، كدت أدفعه بيدي في غيظ، لكني تمالكت أعصابي، وغبت عن الوجود في رحلة إلى عالم النسيان الأسود المخيف كنت فريسة كابوس موهق محطم للأعصاب .. يا إلهي !! لم هذا العناء كله؟؟ لم اشعر بقبلته ولا بذراعيه كان كالأفعى تطوقني ..لكأنما تثلجت أطرافي، أو أصيبت بشكل مباغت ... ثم ماذا؟؟ جلسنا نتناول الطعام كان ضعيف البصر لدرجة كبيرة.. وأخذ يتحسس الأطباق ليعرف ما أمامه من مأكولات ... وأخذ يثرثر .. قال لي الطبيب، إن عندي ماء ابيض على عدسة العين، وأنني أحتاج إلى جراحه ..الأطباء يهولون دائما .. الشافي هو الله يا (نورة) .. صحتي قوية كالحصان .. لم أمرض أبدا .. رحم الله أيام زمان ..كنت فارسا لا يشق له غبار .. حاربت .. وقتلت.. وتزوجت كثيرا.. الناس تعرف من أنا، كنت أبث الرعب في قلوب الجميع.. بل كنت الرعب نفسه .. كنت أقنص النساء والأطفال ...وأبيعهم في سوق العبيد خارج البلاد، تعلمت الغوص، وتاجرت في اللؤلؤ... كانوا في البر يسمونني (صقر الصحراء). وفي البحر (قاهر الأمواج) أنت يا نورة لا تعرفين من أنا ... من حسن حظك أن تكوني زوجة لي، بل ويشرفك أن تقفي على أعتابي ، وتسهري على راحتي، سمعت عن جمالك وأدبك، فقررت الزواج منك... ألست سعيدة!!
اه.. نظرت إلى جذع النخلة المتأكل، وإلى جذوره الذابلة.. وعلامات الفناء تدب في كل أوصاله، وشعرت بموجة عاتية من الكراهية، لو لم أكن زوجته لما استبدت بي هذه الكراهية، إن الشيخوخة جديرة بالعطف والاحترام وتستدر العون، لكن الشيخوخة الظالمة الحمقاء الأنانية، تملؤني بالنفور... وصحت في حقد مكبوت:
- (لماذا تزوجتني وأنا في سن حفيدتك ؟؟)
قال ببرود قاتل:
(لإني أريد ذلك)
(لكني لا أريده)
قال وهو ينهش فخذ خروف صغير:
(لا يهم...)
نظرت إلى طاقم الأسنان الصناعي وهو ينهش اللحم، فخيل إلي أنه لحم امرأة ضحية خطفها في الزمن الغابر، وبدا لي أن الدماء تسيل على أشداقه، وتخضبت لحيته البيضاء، وتلوثت أصابعه المرتجفة وبدا لي شاربه ينتفض وكأنما تحول إلى حراب فضية رفيعة... وتضاءل وجهه، وبدا مثلثا، تنتصب عليه أذنا وحش مفترس، بل وبدا لي أيضا أنه يعوي كوحش ضار أصابه داء الكلب، فجن جنونه فصرخت بأعلى صوتي طالبة النجدة .. ثم ارتميت على بساط الحجرة، ولم أفق إلا على جمهرة من النسوة ، يصبون الماء على وجهي، ويدلكون أطرافي وصدري، ونظرت حولي، رأيته جالسا لم يتحرك، وفخذ الشاه في يمينه، يمضغ الطعام بهدوء وروية ... وضحكت النسوة .. وقالت إحداهن: وأظنها زوجته الثالثة: ( ماذا يزعجك يا عزيزتي؟؟ لا تقلقي،سرعان ما يذهب الفزع، ويحل محله الهدوء والاستسلام، لا شك أنه حدثك عن بطولاته القديمة إنه يمزح بلا شك...)
أما هو فحاول أن يضحك، لكن السعال سبقه، بحيث لم أعد أعرف هل يقهقه مسرورا، أو يسعل مأزوما، وخرج النسوة، وعاد الصمت من جديد وقال:
(ألا تأكلين؟؟)
ولما لم أجب بكلمة، تمتم:
(تصرفاتك هذه لا تحرك في شعرة واحدة.. أنا أعرف النساء جيدا.. ذات مرة.. وكان ذلك منذ ثلاثين عاما لم أرتح لتصرفات إحدى زوجاتي .. قتلتها على الفور..)
هتفت في ذعر:
(قتلتها؟؟).
(أجل ... وماذا في ذلك... المرأة الفاجرة لا تستحق سوى ذلك؟؟).
قلت في تحد:
(والرجل الفاجر، ما ذا يستحق؟؟)
ضحك ضحكة سمجة تبعث على الضيق والاشمئزاز وقال:
(إنه رجل...)
(ألم يحاسبك أحد على ما فعلت؟؟)
تجشأ، ثم شرب قدحا من الماء،وتمتم:
(ما زلت صغيرة يا نورة .. وسأعلمك الكثير).
كانت هناك أشياء كثيرة أردت أن اقولها له، لم أمسك لساني خوفا منه، فقد بدا لي تافها لا وزن له، وحتى لو استطلع أن يقتلني لما شعرت بأدنى ندم على حياتي، إن حياة في ظل هذا المخلوق هو الموت بعينه، قلت وأنا أصر على اسناني:
(أنا أكره الظلم).
(أنت ساذجة.. الظلم صناعة الأقوياء.. ثم ما هو الظلم؟؟ كل ما يطلب منك دون أن يوافق هواك فهو ظلم، لكنه في
نظر الأخر ضرورة وعدل...)
ومسح على لحيته البيضاء، وشاربه الكث، ثم استطرد:
(لست غبيا .. أنت تعتقدين أن زواجك مني ظلم.. وأنا أعتقد أنه حق مشروع ...)
قلت في نفور:
(تحدث عن أي شيء إلا الحق...)
لشد ما أكره كلماته، ونبرات صوته، وملامح وجهه وأشعر أن بيني وبينه عصورا سحيقة، إنسان من عصر الغابة يتكلم، يخاطب مجتمعا أخر، وله منطق مضحك ومحنق، ويريد أن يفرض سلطانه وقيمه على امتداد الدهر، متحديا بذلك سنن الكون والحياة.. متحديا الله.. وكل المثل الرفيعة.. فلماذا لا أسخر منه؟؟ هذا السلاح وحده –برغم تفهته- قد يقلم أظافره، ويرده إلى الصواب.. قلت وأنا أضحك في خلاعة مصطنعة:
(لم يعد هنا أسواق للعبيد)
وهم بالكلام لكني قاطعته:
(ولن تستطيع اليوم أن تختطف عنزة..)
ارتجف شاربه، وأراد أن يرد، لكني لم أعطه فرصة واستطردت:
(لو فكرت في قتل زوجة لك لساقوك إلى المشنقة).
وأخذت أقهقه في هيستيرية، وهو يجاهد ليحقق في تغييرات وجهي، وصرخ كأسد جريح :
(زعموا أنك مؤدبة ..)
(إنني كذلك، لكني أحتقر الزيف، وأمقت الظلم).
قال وهو يلوح مهددا:
(العصا وحدها هي التي ستردك إلى صوابك).
تحامل على نفسه، وبحث عن عصاه المعوجة التي يتكئ عليها، وأخيرا وجدها، وأنا واقفة أرقب المشهد المحزن ضاحكة ساخرة، لكني رأيته يتقدم نحوي، ويرفع يده المرتعشة بالعصا محاولا أن ينزل بها على رأسي، ولكني في لحظة قصيرة وثبت كقطة صغيرة، فهوت عصاه على الحائط، وكرر الهجوم عدة مرات، وفي كل مرة كنت أفلت من عصاه وأضحك، لا أدري لم كنت أفعل ذلك، كنت أتصرف بلا وعي يدفعني إلى ذلك جنون اليأس، أو حرقة الظلم، لا أدري بالضبط ماذا كان يعتمل في داخلي، كنت أريد أن أنفث عن تمردي وغضبي وثورتي، وحقي الضائع بأية وسيلة، في عالم لا يؤمن بأن المرأة إنسان.. كائن.. له روح وقلب وأشواق قد تكون أقوى وأعنف من التي يمتلكها الرجل..
وأخيرا حصرني في ركن من أركان الغرفة، كان على يميني الصوان ومن خلفي الحائط، وعلى يساري مرأة التسريحة ومقعدها، ورفع عصاه، ولم أجد وسيلة للدفاع، سوى أن أنقذف نحوه كي أحمي رأسي . انقذفت بقوة، فارتطمت بصدره وبطنه.. فارتمى على ظهره متلاحق الأنفاس، ولم يستطع النهوض، والعصا ملقاة إلى جانبه كسيف الفارس المهزوم.. وقفت جامدة لحظة.. ثم نظرت إلى وجهه الشاحب، وصدره الذي يعلو ويهبط في سرعة مخيفة، فصرخت بأعلى صوتي مرة أخرى طالبة النجدة..
وأتى النسوة من جديد، متشحات بالثياب السوداء، ترتسم الللهفة والإشفاق على عيونهن. زوجاته الثلاثة، واثنتان من بناته وهما أرملتان... ورجل من أبنائه يبلغ الخمسين، وهتف الابن: (ماذا جرى؟ إنها لفضيحة..).
أشرت بأصبعي نحو أبيه دون أن أتكلم، كانت الدموع تسد حلقي، وتجري فوق خدي، وأنا لا أكاد أصدق ما يحدث،
لا شك أنني في حلم مخيف..
وانكب الجميع عليه، وتسللت أنا خارجة من باب الغرفة، وسمعت العجوز، وأنا أندس في أحضان الظلام البارد الوادع.
(لا أريد هذه الشيطانة.. اذهبوا بها لأبيها ... هي طالق ..طالق..طالق..).
وجريت كطفلة صغيرة في الشارع الصغير، حافية القدمين، وأنا لم أزل بثوب الزفاف، لم أشعر الأحجار والأشواك التي تجرح أقدامي، ولا بالذين أصطدم بهم عرضا في الطريق، ولا ببعض السيارات الرابضة أمام البيوت.. كنت اتخذ مساري بالغريزة وكأن لي هدفا مرسوما لا أحيد عنه.. وفجأة وجدتني في الشارع الكبير الذي تغمره الأضواء، وينبض بالحياة، وأغاني المذياع تتردد في أفاقه حلوة شجية.. خففت من خطواتي.. وخجلت من ثيابي.. طأطأت رأسي . لكني لم أتوقف .. وكلمات الغزل المنتشرة على جانبي الطريق.. لكني كنت أشعر أنني قضيت في الكهف مائة عام برغم أنها لم تكن سوى ساعات قليلة..
- ????زائر
رد: ليلة الزفااف
الثلاثاء فبراير 23, 2010 11:31 am
ياسلام
ليله جميله
أشكرك أخوي ماستر
تقبلو مروري
ليله جميله
أشكرك أخوي ماستر
تقبلو مروري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى